تخبرنا دروس الطبيعة أن الزلازل لا يمكن التنبؤ بها بدقة، لا على صعيد التوقيت، ولا على صعيد مقدار القوة. فما أوتي العلم الحديث في هذا المجال إلا قليلا، لكن يمكن الاستعداد والتأهب لها قدر الإمكان. والزلازل كنشاط جغرافي متكرر يتشابه إلى حد بعيد مع السياسية التي تأتي رياحها في مناسبات كثيرة بما لا تشتهيه السفن، وهو أمر لا يمكن تجنبه لكن يمكن الاستعداد له للتخفيف من آثاره. وإذا اجتمع كلاهما، أي إذا اجتمع الزلزال مع أحداث سياسية كبيرة، فهذا يعني أننا أمام متحول كبير وربما ضخم كما حدث في زلزال تركيا وسوريا بشكل لم يكن ممكنا التنبؤ به سلفا، وبالتالي فلم يكن بوسع كافة الأطراف الاستعداد المسبق لها.
وأول ما يتبادر للذهن حين حدوث الزلزال في مناطق التوتر السياسي هو أنها ستزيدها سوءا، لكن كثيرا من التجارب تخبرنا بأن العكس ربما هو الصحيح. فتقول فيرونيك دودوي في تقرير صادر عن مركز أبحاث برغهوف للإدارة البناءة للصراعات في برلين في ألمانيا عام 2009، إن كارثة تسونامي حين ضربت إقليم آتشيه الإندونيسي في عام 2004 فإنها كانت حافزا لإنهاء الحرب الأهلية التي كانت دائرة هناك، وسرعت من جهود إحلال السلام بين الحكومة والمتمردين وبدء جهود إعادة الإعمار. وهو الأمر الذي ربما يتحقق في تركيا وسوريا، فكلا البلدين على حافة تطورات سياسة خطيرة ومفترق طرق ضخم، على اختلاف حالة كل منهما عن الأخرى.
في تركيا، بدأ العد التنازلي لأخطر انتخابات رئاسية في تاريخ البلاد ستحدد وجهتها في المرحلة المقبلة، وقد كانت فرصة لكل القوى السياسية الداخلية والإقليمية والدولية للمراهنة عليها بأشكال مختلفة لإعادة هندسة العلاقة مع أنقرة. وقد أتى هذا الزلزال ليربك كافة الحسابات ويضع كل الجهود في مهب ريح ما ستسفر عنه التطورات الميدانية. وهي بالمناسبة غير محسومة حتى الآن، لكن على الأقل فوتت كثيرا من فرص الانتهازية السياسية خارجيا وداخليا، فمن الصعب توظيف كارثة إنسانية بهذا الحجم لأهداف حزبية ضيقة، خاصة أنها غير مسبوقة في التاريخ المعاصر، فأصبح لا صوت يعلو فوق صوت الإغاثة.
لقد بدأت تركيا مرحلة إطفاء الحراق والكوارث السياسية داخليا وخارجيا التي أعقبت الثورات العربية قبل أكثر من عشر سنوات من دون مساعدة جادة من المجتمع الدولي. وقد جاء هذا الزلزال ليضيف عبئا جديدا على الكاهل التركي المنهك، لكن الفرق هذه المرة أنه أتى محملا بمساعدة أكثر من تسعين دولة حول العالم حتى ولو على الصعيد الدبلوماسي والسياسي، فهذا يعني عودة سريعة إلى سياسة صفر مشاكل التي راهنت عليها أنقرة زمنا وصنعت لها شعبية كبيرة دوليا قبل أن تدفع فاتورة دعم الثورات العربية باهظا بعد ذلك.
أما في ما يتعلق بسوريا، فقد فاقم الأمر معاناة اللاجئين السوريين في الجنوب التركي وحولهم إلى نازحين، بالإضافة للضحايا السوريين في الشمال السوري. وهذا يعني أنه كبح جماح كثير من السياسات الأوروبية المعلنة تجاه اللاجئين السوريين، حيث أعلنت عدد منها تعديل سياسات لمّ الشمل.
ومن جهة أخرى، أعطى الزلزال قُبلة الحياة للنظام السوري وأظهر الاتصالات العربية المستترة معه ليحقق النظام بذلك مكاسب سياسية مجانية من دون أي تغيير يذكر، في وقت لا يزال فيه ملايين اللاجئين والنازحين يملأون أصقاع الكوكب. وهي قُبلة إما أن تكون بمقابل سياسي غير معلن وهذه كارثة، أو أن تكون مجانية وهذه كارثة أكبر. وفي كلتا الحالتين فهي نوع من النهاية غير اللائقة لتضحيات الشعب السوري ومحاولة إغلاق جرح لا يزال ينزف، لكن على الأقل فإن الوضوح في السياسة أفضل من سياسات التسويف.
مصدر : العربي